اعتمد مبارك كثيرا على الورق وهو يقرأ خطابه الأول عقب مظاهرات 28 يناير الهائلة والمفاجئة، والتى لم تنجح فى أن يتخلى مبارك عن اعتقاده فى قدرة سحرة فرعون على هزيمة موسى. الفراعنة، كما تأكدنا، لا تتعلم إلا بالغرق، وقد قرر مبارك منذ اللحظة الأولى أن يغرق، لكن هذه المرة كان شق البحر على الهواء مباشرة!
قال فى خطابه الذى لم ترن فيه أى نغمة جديدة فى أدائه الصوتى، بل تعمد تغليظ الحروف وتعميق الصوت ورفع النبرة، كأنما بشكل دفاعى يعلن عن هجومه ويبالغ فى إظهار ثقة بالنفس لامست حد العمى.
«الإخوة المواطنون.. أتحدث إليكم فى ظرف دقيق يفرض علينا جميعا وقفة جادة وصادقة مع النفس تتوخى سلامة القصد وصالح الوطن. لقد تابعت أولا بأول التظاهرات، وما نادت به ودعت إليه. كانت تعليماتى للحكومة تشدد على إتاحة الفرصة أمامها للتعبير عن آراء المواطنين ومطالبهم. ثم تابعت محاولات البعض لاعتلاء موجة هذه التظاهرات والمتاجرة بشعاراتها، وأسفت كل الأسف لما أسفرت عنه من ضحايا أبرياء من المتظاهرين وقوات الشرطة».
بطبيعة الحال، كان هذا كله كذبا صريحا دون خجل، ومتى خجل الطغاة؟ لكن المتأمل هنا يدرك عقيدة مبارك البوليسية والأمنية التى تعطى الأولوية لتمجيد وتعظيم الأمن، حتى إنه يقرر أن يجعل الشرطة على ذات القدم مع شهداء المتظاهرين، وفى صحف وبرامج ومواقع الإنترنت التابعة للنظام، كان الكل حريصا عقب مظاهرات 25 يناير على تقديم متابعة درامية استدرائية للدموع عن العسكرى الذى مات فى مظاهرات شارع قصر العينى، مع تجاهل مغرق فى التزوير لكونه توفى تحت أقدام زملائه فى اندفاعهم لضرب متظاهرين، بينما سقط زميلهم البرىء بينهم دون أن يتوقفوا لإنقاذه. فى عصر مبارك رجال الشرطة، وبالتأكيد فيهم شهداء فى خدمة الواجب، كانوا محل التقديس التليفزيونى والصحفى، فى محاولة لاستبدال الذى هو أدنى بالذى هو خير، وتحويل البوليس إلى الجيش الأمنى الداخلى حامى حمى الديار، ورفعه لمنزلة المقدس الشعبى مع تراجع متعمد ومنظم لقيم الحفاوة والاحتفاء بالجيش العسكرى، الحاصل بعد ثورة يوليو وبعد نصر أكتوبر على هذه المكانة العاطفية ضمن الشاعرية الوطنية للمصريين، لكن هذا الكذب التمهيدى الذى يقدمه مبارك فى خطابه الأول لا يمكن أن يساوى الكذب المتتالى الذى واصل به «لقد التزمت الحكومة بهذه التعليمات، وكان ذلك واضحا فى تعامل قوات الشرطة مع شبابنا، وقد بادرت إلى حمايتهم فى بدايتها، احتراما لحقهم فى التظاهر السلمى، طالما تم فى إطار القانون، وقبل أن تتحول هذه التظاهرات لأعمال شغب تهدد النظام العام، وتعيق الحياة اليومية للمواطنين».
مبارك يقول هذا الكلام بعد استشهاد مواطنين برصاص الشرطة، ومع ذلك يمتدح حكومته التى نفذت التعليمات، ثم يقرر مبارك أن المظاهرات تحولت إلى أعمال شغب تهدد النظام.
والثابت أن مبارك سجل هذا الخطاب فى السادسة مساء الجمعة، وكان مكتوبا قبلها بأكثر من ساعة، وهو توقيت لم يكن فيه أى شىء على الإطلاق يمكن وصمه بالشغب، وكانت قوات شرطة مبارك تضرب وتقتل وتقذف دونما تردد، وكانت المظاهرات بالملايين من المصريين لم تقترب من مبنى، ولم تصل إلى مقر شرطة، فهل كان مبارك فى الخامسة يقرأ الغيب؟ أم أنه كان يعرف أو أعطى تعليماته بخطة انسحاب الشرطة، مما يسمح بالانفلات الأمنى؟ أم أنه كان على علم بأن مجموعات مختارة من مسجلى الخطر والبلطجية مأمورون من الذين يشغلونهم بالتحرك لافتعال الشغب فى مقرات الشرطة وفتح السجون بالتوافق مع مسؤولى هذه المقرات والسجون؟
من أين كان مبارك يعرف ليصف المظاهرات بالشغب، وهو الذى توقفت مكالماته مع وزير داخليته عصر الجمعة، بعدما أدرك الثانى عجزه وأدرك الأول سقوط أمنه؟
لكن مبارك يضاعف جرعة التخويف والترويع، خضوعكم وإلا غياب أمنكم الشخصى والعام، فيقول «إن خيطا رفيعا يفصل بين الحرية والفوضى، وإننى إذ أنحاز كل الانحياز لحرية المواطنين فى إبداء آرائهم، أتمسك بذات القدر بالحفاظ على أمن مصر واستقرارها، ومنع الانجراف بها وبشعبها لمنزلقات خطيرة تهدد النظام العام والسلام الاجتماعى، ولا يعلم أحد مداها وتداعياتها على حاضر الوطن ومستقبله».
أهذا كل ما فى جعبة مبارك؟
كنت أعتقد ليلتها أن الديكتاتور يعلن إفلاسه.. لم أكن أعرف أنه كان يعلن خطته!
0 تعليق على " إبراهيم عيسى : خطة هذا المساء "
إرسال تعليق